ألجمـاعـة وجوبها ولزومها في الكتاب والسنة
عـلى فهــم سلـف الامةعثمان حسن بابكر
(كُــرقُـس)
الطبعة الثانية مايو 2020
للتواصل مع الكاتب:
curguss@hotmail.com الفهرس
المقدمة
الجماعة وجوبها ولزومها في الكتاب والسنة
ملازمة الجماعة شعيرة من الشعائر
دعوة القرءان الى للجماعة
الآثار في الامر بالجماعة
الجماعة لتمام الايمان والصلاة
قول البخاري في الجماعة
قول القرطبي في الجماعة
قول النووي في الجماعة
قول ابن بطال في الجماعة
من ترك السنة الخروج من الجماعة
الحكمة من الجماعة واقوال اهل العلم فيها
من اقوال ابن تيمية في الجماعة
قول عمر لا اسلام بلا جماعة
جماعة ابن تيمية
وصية ابن تيمية بالجماعة
قول الشاطبي في الجماعة
من هي الجماعة المرادة
لماذا سمو بالجماعة
معنى اهل السنة والجماعة
ملاحظة حول فهم العامة لاهل السنة
ليس كل منتسبي السنة من اهل السنة
العامة ليسو هم الجماعة
مقالة لابن القيم في الجماعة
معنى اهل الجماعة
من دعى من الاسلاف الى الجماعة
رسالة ابن تيمية الى جماعة في عصره
اقوال شيوخ السلفية في القرون الاخيرة
صفات اهل الجماعة
تعدد اسماء الجماعة
تنبيه حول اسم السلفية
كيفية المعية او اللزوم للجماعة
موقف اهل السنة والجماعة عند الخلاف
حكم المشاركة في العمل العام حتى مع غير المسلمين
الفرق بين مشاركة الافراد والجماعة
اباحة الأحزاب غير الدينية، أي السياسية
الفصل الثاني
اشكالات في فهم الجماعة
الفئات السنية في العالم هم جماعة واحدة
من اسباب قيام الجماعة
حتى لا يساء الهدف من الجماعة
من واجبات الجماعة الامارة
اقوال ابن تيمية في الامارة
تعريف مكانة ابن تيمية العلمية
من يرده الحرج او الكبر عن الحق واتباع الجماعة
حكم الخروج من الجماعة
الخلاصة
مقـدمـــة
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى آثارهم الى يوم الدين.
وبعد
لاجل الطاعة والاتباع، وسلوك سبيل خير متبوع مطاع، وتميزا لاهل الحق عن الرعاع، وإصلاحا لذات البين لاجل الاجتماع، وحرقا لبذور الشك والعنف المشاع، وتسليطا للضوء على الزيف والخداع، وعلى سلف الأمة كيف كان الاتباع، لما طلّ نور من ثنيات الوداع، ولا تعجل علي أخي القارئ بالتحزب او ابتداع، وتابع معي متجردا حتى آخر رقاع، ستجدني في كتابي ضيفا على اهل السنة خير اتباع.
اخوة الأيمان تجئ هذه الرسالة البسيطة للإسهام في حملة التأليف والتقريب، والدعوة الى الاجتماع، ونبذ العنف والصراع، حتى نقيم الدين لله مجتمعين، غير متفرقين، وكي لا نكون من المشركين، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
والبحث يورد بعد الكتاب والسنة أقوال كثير من الأئمة بدءا من عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، والى عصرنا هذا، وجميعهم يرون وجوب الجماعة للمسلمين اهل التوحيد، القائمة من اهل السنة على قرار الفرقة الناجية، ثم بينا صورة هذا الاجتماع من غير حزبية، وصفات الفرقة الناجية وأهلها.
ومن الدوافع للبحث ما سمعناه من بعض المنتسبين للدعوة والسلفية يقولون بعدم جواز الجماعة فضلا عن وجوبها، بل منهم من لا يرى جواز اللجنة او الجمعية التي تدير ابسط الأمور للمسلمين، والأعجب انهم يستدلون على ذلك بأقوال فهموها خطأ عن مشايخ الدعوة السلفية، الذين هم يأمرون بالجماعة ويحضون عليها، وينظمون إداراتها بل ويقودون الجماعة حول العالم، ويدعون لها، وحفلت فتاواهم وكتبهم بالدعوة اليها، اما إذا شذ عنهم داعية بزلة، او أشكل على طلبة العلم فهم كلامه، كان الواجب عليهم عند ذلك لزوم السواد الأعظم من علماء السنة.
كما بينا اقوال السلف الصالح في توضيح من هم السواد الاعظم، ونصل الى ان هناك جماعة مشروعة، بل مأمور بها، ولزوم اهلها بلا بيعات او معاهدات ان لم يكن لها امام سلطان، فان كان لهم امام دولة فالبيعة له، وكذلك بيّنا حالات ومراحل تمر بها الجماعة على صفة الطائفة المنصورة المذكورة في الاحاديث النبوية والتي وصفت بأنها لا تزال حتى تقوم الساعة.
ان البحث يركز على النصوص والاثار ثم الاستنباطات التي وردت من اعلام اهل السنة، واحيانا وضمنها اجعل خط تحت كلمة او جملة معينة اريد بها ان يركز القارئ على مدلولها ووضوحها في امر الجماعة، وعلينا جميعا ان نراجع ما حصلنا من الأدلة وننظر في فهم سلف الامة لها حتى لا نكون من الذين فرحوا بما عندهم من العلم ويصدنا ذلك عن اتباع الحق بسبب التعصب او الكبر والحسد او الحرج من التراجع عن خطأ ظن البعض انه حق او اتبع فيه زلّات اخرين وثق بهم، ولا ندري لعلّ الله ابتلى البعض ان يطيعوه ام من وثقوا فيهم وتعصبوا لفتواهم، وقد كان في الأمم السابقة من اتبعوا معلميهم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا كما وصفهم الله تعالى، فلنتأمل ادلة الاخرين، فاما كانت صحيحة فنرجع لها او زاد البعض يقينا على ادلته، لكن بعد بذل الجهد في طلب الحق والتجرد، والاطلاع على فتوى من أجمع السواد الأعظم من الامة على عدالتهم، ولنقف على النصوص واقوال السلف والأئمة في فهم الجماعة، والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله في يوم
07 ذو الحجة 1420 ه
الموافق 13 مارس 2007 م
عثمان حسن بابكر
الجمـاعـة
وجوبها ولزومها في الكتاب والسنة
عـلى فـهـم السلـف الصـالـح
ان الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن اصحابه اجمعين وتابعيهم ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
يقول ربنا جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.119التوبة.
فبدأ تعالى بالتذكير بالخشية والخوف منه في تنفيذ هذا الامر الهام، وهو معية اهل الصدق والالتزام ومرافقتهم، الذين كانوا يتّبعون النبي صلى الله عليه وسلم في كل شئونهم، ومع ان الاية نزلت في كعب بن مالك رضي الله عنه وبعض المخلّفون من الاعراب، الا ان السياق جاء امرا عاما يشمل جميع المؤمنين، آمرا لهم بمعية الصادقين ولزوم جماعتهم.
كما امر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على معية اهل التوحيد، في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). 28 الكهف.
وقد امرنا تعالى ان نقيم الدين مجتمعين غير متفرقين، كما امر الانبياء من قبلنا، في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ . 13 الشورى.
ملازمة الجماعة شعيرة من الشعائر ان معية اهل الايمان الصادقين، وملازمة جماعتهم هي شعيرة في ذاتها، احيانا تقترن بشعيرة اخرى، واحيانا عامة يراد بها لزوم الجماعة ومناصرتهم، كقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. آل عمران. ومع شعيرة اخرى كقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ .3 البقرة.
فمع الامر بالصلاة كذلك امر بالاجتماع عليها، وكذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. أي ليس منفردا وانما مع الجماعة وتوقيتها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتماع على ايام رمضان قال: صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون. أي اليوم المعتمد لكم هو ما عليه الجماعة، وهذا يعني ولو خالف ذلك توقيت الشهر لعدم وضوح الرؤيا، فتقدير الجماعة رضيه الشارع، وجعله هو اليوم المفروض للصيام، فجعلت شعائر من حكمتها الاجتماع والائتلاف. وقد اخبرنا جلّ وعلا ان الناس كانوا امة واحدة، أي جماعة واحدة، وبسبب عدوانهم على بعضهم فرقوا دينهم، الا اهل التوحيد أي الايمان الصحيح دلهم وهداهم الى السبيل الموافق للحق، وذلك في قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم. 213 البقرة.
فرغب تعالى في الاجتماع وحض عليه، ونهى عن ضده التفرق وحذر منه، لكن الاجتماع على الحق، الذي هدى له اهل الايمان والتوحيد لأنهم وافقوا ما قامت عليه الجماعة الأولى، وهو الدين الخالص اتباع السنة من بين الفرق المنحرفة.
وهداهم الى سبيل الفرقة الناجية منهم، كما هدى رسوله الى ذلك السبيل بعدما رجع الناس الى الشرك قبل البعثة، قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.161 الأنعام.
دعوة القرءان الى الجماعة
ان من تدبر القرءان لوجد وجوب الجماعة في غاية الجلاء، بل من ابرز مقاصد الشريعة ومعالم الدين، وسنورد الكثير من النصوص والآثار ومن ذلك قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .105 آل عمران. دعاهم الى الاجتماع ثم نهاهم عن التفرق، ولكي يؤكد ان المطلوب منهم الاجتماع على العمل قال تعالى: ولتكن منكم امة يدعون الى الخير أي لتكن منكم جماعة تقوم بذلك، وليس تدعوا لوحدك، الا اذا لم يقدر على الاجتماع، فدعاهم للاجتماع على الدعوة وان تكون منهم فرقة لذلك، وسياتي بيانه. وفي تفسير ذلك روى الشعبي عن عبد الله بن مسعود انه قال: في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا..)، قال: ( الجماعة ).
وروى ابن جرير الطبري، عن ثابت بن قطبة المدني عن عبد الله انه
قال: "يا ايها الناس: عليكم بالطاعة والجماعة، فانها حبل الله الذي امر به، وان ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خير مما تستحبون في الفرقة "، وذكر ابو جعفر: " يعني ـ جلّ ثناؤه ـ بقوله تعالى: ( و لا تفرقوا ): ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد اليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء الى أمره" وروي عن قتادة: "( ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم )، ان الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة، وقدم لكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لانفسكم ما رضي الله لكم ان استطعتم، ولا حول ولا قوة الا بالله ". وروي عن ابن عباس قوله: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) ونحو هذا في القرءان، امر الله ـ جلّ ثناؤه ـ المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة واخبرهم انما هلك من كان قبلهم، بالمراء والخصومات في دين الله. انتهى.
فتامل كلامه رضي الله عنه " امر الله "، والأمر يقتضي الوجوب ويعني عدم القيام بها مع القدرة والامكان معصية.
وقد فاضت السنة والآثار في الامر بالجماعة، بما يبطل شبه اهل الاعتزال، ومنها ما رواه الامام احمد رحمه الله، ( 4/278 ) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الجماعة رحمة والفرقة عذاب ).
وروى في (4/ 130 ) عن الحارث الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ان الله امر يحي بن ذكريا بخمس كلمات، فذكر الحديث بطوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وانا آمركم بخمس كلمات امرني الله بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فمن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من راسه الا ان يرجع ).
والربق حبل ممدود تتفرع منه حبال قصيرة يربط فيها البهم صغار الغنم الرضيعة، فتصير مثل العقد في حبل واحد، وبالنسبة لمثل المسلم يضعها في عنقه بقبوله الإسلام وجماعته، ليكون الجميع في ربق واحد، فمن رفض الجماعة فقد اخرج ربقة الاسلام من عنقه وخرج من رابطة المسلمين، تلك التي تجمع كل اهل التوحيد، فمن اراد معيّتهم فليرجع اليهم، ويضع ربقة الجماعة في عنقه.
وروى ابن جرير عن انس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ان بني اسرائيل افترقوا على احدى وسبعين فرقة، وان امتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة ، كلهم في النار الا واحدة، قال: فقيل: يارسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: (الجماعة، واعتصموا بحبل الله جميعا ).
فدل بهذا الوصف على ان المراد بالاعتصام هو الجماعة، كما فسرها بقبض يده دلالة على ترابط الجماعة وتماسك افرادها. وقال ابو جعفر: " يعني بذلك ـ جلّ ثناؤه ـ ( ولتكن منكم ) ايها المؤمنون ( امة ) يقول: جماعة" .
يفيد: ولتكن منكم امة، أي ولتكن منكم جماعة.
والامة معناه: جماعة، كقوله تعالى: (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ)، أي جماعة من الناس يسقون.
(منهم امة مقتصدة ) أي: جماعة مقتصدة.
( ان ابراهيم كان امة ) أي: كان جماعة بشخصه يواجه قومه لعدم وجود اتباع له آنذاك قبل ان يجد الأولاد بعد ان كبر.
فكان ممثل جماعة الحق المطلوب قيامها حين غياب اتباع لها.
وقوله تعالى
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ). أي جماعة يهدون بالحق. وقال ابو جعفر في التفسير:" ( ويعني ـ جلّ ثناؤه ـ بقوله : (امة قائمة ): جماعة ثابتة على الحق .
فقوله تعالى: ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر) أي: لتكن منكم جماعة تقوم بذلك. وقال ابو جعفر في قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا )، يقول ـ جلّ ثناؤه: فلا تتفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم، تفرق هؤلاء في
دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنون في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من
عذاب الله العظيم مثل الذي لهم). انتهى.
وروى الامام احمد 5/ 233: عن معاذ بن جبل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ان الشيطان ذئب الانسان، كذئب الغنم، يأخذ السيرة، والقاصية، والناحية، فإياكم والشيطان، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد.
وهذا تحذير للمنفرد او المتنحي اي المبتعد عن جماعة التوحيد، وبين له ان السلامة في جماعتهم ومجتمعهم.
الآثار في الجماعة
وروى ابن بطة عن ابن مسعود قال: عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة، فان الله لا يجمع امة محمد على ضلالة ابدا، عليكم بالصبر حتى يستريح بر او يستراح من فاجر.
الجماعة لتمام الايمان والصلاة
روى الدارمي عن حسان بن عطية، انه سمع عطاء الخرساني يقول: ثلاثة لا تنفع اثنان دون الثالثة، الايمان، والصلاة، والجماعة.
وهذا ما يؤكد ان اعتقاد السلف الصالح في الجماعة انه الوجوب الذي تركه معصية، بل ولا ينفع الايمان بلا ملازمة الجماعة المؤمنة، باعتبار ان ذلك من تمام الايمان ولوازمه، أي من باب الولاء والبراء، اذ انه لم يوالي المؤمنين من هجر جماعتهم او اعتزلهم.
وروى عن عامر بن ثابت بن قطبة قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: ان احسن الحديث كلام الله، واحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب. وسمعته يقول: ياايها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فانها حبل الله الذي امر به، وان ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة.
وقوله ما تكهرون يشير الى اجتهادات لا يراها البعض او يظنها خطأ فعليه لزوم الجماعة ولا يفارقها لسبب ما يراه خطأ منهم لان خطا مفارقتها اكبر من خطأ اجتهاد الجماعة ان أخطأت.
وروى عن الحسن، ان ابي بن كعب قال: هلك العقدة ورب الكعبة، هلكوا واهلكوا كثيرا، والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على ما يهلكون من امة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني بالعقدة: الذين يعمدون على الآراء والاهواء، والمفارقين للجماعة . انتهى.
وقد بوب البخاري في لزوم الجماعة قوله: وما امر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم اهل العلم، يقول شارح عمدة القارئ: هذا عطف على ما قبله، تقديره وفيما امر النبي صلى الله عليه وسلم: بلزوم الجماعة. والمراد بالجماعة: اهل الحل والعقد في كل عصر . انتهى.
وهنا يعني اهل الحل والعقد من علماء الشريعة الاسلامية.
قال الكرماني: مقتضى الامر بلزوم الجماعة، انه يلزم المكلف متابعة ما اجتمع عليه المجتهدون، وهو مراد البخاري بقوله، اهل العلم.
وهذا ايضا يفيد انها ليس جماعة الناس العامة وانما فئة اهل العلم والدراية وهذا في منهج الجماعة وشعائرها وسبيلها وهو احد معنيي الاجتماع، واما في المعنى الاخر للّزوم وتقارب الافراد فهو لزوم المعية والاجتماع لأفرادها والذي وصف تاركه بالغنم القاصية، اي لزوم الجماعة في منهجها والمرافقة في جماعتها. ولا يبتعد عنهم كالغنم التي فارقت القطيع فيتلقاه الشيطان وهذا يعني ان المبتعد عن الجماعة معرض للفتنة والمعاصي.
اذن الجماعة لها معنيان الاول منهج وفكر ومعتقد يؤمن به، والثاني الجماعة اتباع واناس مجتمعون على هذا المعتقد والمنهج، فان ذكرت شريعتها هي ما اشار اليه: (ما اجتمع عليه المجتهدون)، وهو المنهج والمسلك العلمي العقدي.
وان ذكر اتباعها ومجتمعها اشير الى صفات المجتمعين على التوحيد والسنة، فان ورد ذكر احدها في موضع ما لا يعني هذا نفي المعنى الاخر. فاحينا تذكر بهذا واحيانا بالوصف الثاني. وهذا ما اخطأ فيه بعض الفضلاء الذين اخذوا فقط الاجتماع على شريعتهم والمذكور بما عليه المجتهدون، ولكن تركوا الاجتماع الذي يعني المرافقة لاهل الحق وتألف بعضهم ببعض وهو ما يقابله معنى الاية: ( ولا تفرقوا). أي افرادكم.
وقال ابن حجر في فتح الباري: ( فعرف ان المراد بالوصف اهل السنة والجماعة وهم: اهل العلم الشرعي، ومن سواهم - ولو نسب للعلم - فهي نسبة صورية لا حقيقية ) انتهى.
وقال القرطبي في التفسير ص 1406: فاوجب تعالى علينا، التمسك بكتابه، وسنة نبيه، والرجوع اليهما عند الاختلاف، وامرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات، الذي تتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وامر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لاهل الكتابين. انتهى.
وتأمّل اشارته الى امرين، الاول التمسك بالكتاب والسنة وهذا منهجها والثاني قال: وامرنا بالاجتماع على الاعتصام. يعني الجماعة.
وقال الامام النووي في شرح صحيح مسلم ( 12/11 ) واما قوله صلى الله عليه وسلم ( ولا تفرقوا): هو امر بلزوم جماعة المسلمين، وتألف بعضهم ببعض، وهذه احدى قواعد الاسلام، واعلم الثلاثة المرضية: ( احداها ان يعبدوه، الثانية ان لا يشركوا به شيئا، الثالثة ان يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا ).
ذكر ابو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري الالكائي المتوفي سنة 418 هجرية عن الاوزاعي يقول: ( كان يقال: خمس عليها اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون باحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرءان، والجهاد في سبيل الله).
وذكر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ( واني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحا ثم اهتدى )، قال ( ثم اهتدى ): قال: لزوم السنة والجماعة .
وذلك يعني ربما يتوب البعض عن المعاصي لكنه لا يهتدي الى فئة الحق فيتبع جماعة ضالة او حتى لا يهتدي الى اهل الحق فيكون تايه لم يتبع الفرقة الناجية التي على الحق.
فالسنة هي المنهج، والجماعة هي الفئة العاملة به والمطلوب السير معها، وذلك يعني بعد الايمان (اهتدى الى الجماعة الحقة التي على السبيل الصحيح ). يعني انتمى ولزم لجماعة الحق.
لان البعض يؤمن بالاسلام، او يتوب عن المعاصي، لكنه لا يهتدي الى الجماعة الحقة، بل ينضم الى فرقة او جماعة مبتدعة في دينها او متطرفة فيكون لم يهتدي الى الحق، أي ترك معاصي كان يفعلها لكنه لم يهتدي الى الفرقة المعتدلة التي على جماعة السنة والفرقة الناجية، وتلك المغفرة الموعودة في الاية لمن (اهتدى) الى اهل الحق والجماعة التي عليه وهي الفرقة الناجية.
وذكر عن ابن عباس في قوله تعالى: ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه). 106 آل عمران. " فاما الذين ابيضت وجوههم": فاهل السنة والجماعة وأولو العلم.
فانظر عبارة الجماعة في حديثه تفيد الجماعة معلومة منذ عهد الصاحبة رضي الله عنهم، فهم يحدثون بما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم عما سيقع في الامة وما هو الموقف الاسلم عند ذلك.
وروي عن اسامة بن شريك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يد الله على الجماعة، فاذا شذ الشاذ منهم، اختطفته الشياطين كما يختطف الشاة ذئب الغنم. قال الالباني رحمه الله: صحيح بشواهده.
وهذا يفيد ان المراد من الجماعة هو الاجتماع لمن يحملون هذا المنهج النبوي، اذ لو كان المراد لزوم المنهج فقط، لكان للمفارق الجماعة ان يكون على منهجها في انفراده، ولما كان المراد الاجتماع معهم، شبهه بالغنمة المبتعدة عن رفيقاتها، وذلك دعوة منه صلى الله عليه وسلم للرجوع الى مرافقة الجماعة.
وروى الترمذي مصححا من حديث الحارث الاشعري، وذكر حديثا مطولا، فيه: وانا آمركم بخمس امرني الله بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فان من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. وذكر حديثا آخر، فيه: ومن اراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة .
وقال ابن بطال: مراد الباب: الحض على الاعتصام بالجماعة، الى ان قال: والمراد بالجماعة: اهل الحل والعقد.
والمراد بلزوم الجماعة: أي ابقاء النفس فيها واجبارها على ذلك، وفرض المداومة بها على النفس، جاء في المعجم الوسيط: لزم الشيء لزوما: ثبت وداوم، لازمه، ولزاما: داوم عليه. التزم الشيء او الامر: اوجبه على نفسه.
والمراد بلزوم الجماعة، ان يفرض العبد على نفسه المداومة فيها والثبات على الجماعة، في منهجها، وفي مجالسها ومجتمعها، ومرافقة اتباعها، وان يصبر نفسه معهم كما جاء في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). 28 الكهف.
وقول ابن بطال في الاعتصام بالجماعة، يعني الاحتماء بها من الفتن، والهوى، والشيطان، ومن فرق الضلال وشبهاتهم، حتى لا يخرج عن الجادة، خاصة في عصر الفتن والبدع، وغربة الاسلام، وتعدد الفرق الضالة من حول اهل الحق الصادقين، الذين يتمسكون بالسنة وعلى نهج السلف الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين، وألئك المتمسكون هم الفرقة الناجية التي وصفها صلى الله عليه وسلم ب ما انا عليه واصحابي، ووصفها: الذين يصلحون ما افسد الناس من سنتي.
وروى الامام ابن بطة عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل لله في الجماعة فاصاب تقبل الله منه، وان اخطا غفر الله له، ومن عمل لله في الفرقة فان أصاب لم يقبل منه، وان اخطأ فليتبوأ مقعده من النار).
وهذا يوضح لمن ترك الجماعة باجتهاد يرى انه في موقف محق وتصرف صواب فهذا يفيد حتى لو ان فعله سليم او لا يخالف الحق لكنه لاجله ترك الجماعة فهذا يكفيه سوء لانه مخالف للجماعة التي هي أولى باللزوم وافضل له البقاء فيها من فعل خير يراه لكن يبعده عن الجماعة، خاصة من يقول يعمل في عمل خيري من خارج الجماعة ويتركها بسبب خلاف على الاعمال الخيرية التي أصبحت عنده هي الدين يوالي فيها ويعادي فيها، وهذا من هواه.
وروى ايضا عن سعد بن حزيفة عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة شبرا فارق الاسلام، وهذا يفسر خلع ربقة الاسلام بالخروج منه.
وروى الامام ابن بطة عن المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن اسباط يقول: اصل البدع اربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، ثم تشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك اثنان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون، الجماعة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انها الناجية.
واخرج الترمذي والطبري، عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال: اني قمت فيكم كمقام رسول الله فينا، فقال: اوصيكم باصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشفوا الكذب، حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، عليكم بالجماعة، واياكم والفرقة، لا يخلو رجل بامرأة، فانه لا يخلوا رجل بامرأة الا كان ثالثهما الشيطان، الشيطان مع الواحد، وهو عن الاثنين ابعد، ومن اراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن.
من ترك السنة الخروج من الجماعة
وروى الترمذي في التهذيب 3 / 318: عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ترك السنة الخروج من الجماعة.
والخروج من الجماعة يكون بمعنيين، اما الخروج على اجتماعهم ووحدتهم وفرقتهم الناجية، وذلك ما يفيد الفرقة والتشتت، او الخروج على ما عليه الجماعة من الحق وهو المنهج.
كما روي عن علي رضي الله عنه ذكر ان الخروج من الجماعة من الكبائر. وذلك في الاثر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا علي بن صالح، عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين، عن علي، رضي الله عنه، قال : الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، والسحر، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة
ان مما ذكر في شأن الجماعة ووجوبها ولزومها، لا يتردد فيه الا من طمست بصيرته، وسيطر عليه الهوى فأعمى قلبه، واصم اذنه، وان في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد.
وللجماعة ذكر آخر وتفاصيل سترد في مواضع اخرى قادمة خلال تعريفها وصفات اهلها ومناقشة الشبهات وتفنيدها، مع ذكر اقوال اهل العلم من السلف الصالح رضي الله عنهم واتباعهم اجمعين.
الحكمة من الجماعة وأقوال اهل العلم فيها
ان الحياة كلها ومصالح بني آدم لا تقوم ولا تكتمل الا بالاجتماع والتعاون، سواء في الدنيا او الدين، وفي اختلاف طبائع الناس وقواهم العقلية والبدنية ورغباتهم المتفاوتة حكم عظيمة، منها: ليحتاج كل شخص الى الاخر، وذلك يكون سببا في تقريبهم ليكمل كل منهم الاخر ويصبح له فيه حاجة تجبره على التقارب، ويؤدون ما طلب منهم ويحصل التكاثر واستمرارية الحياة، وغير ذلك من الحكم في السنة الكونية، وحتى الحيوانات ملهمة في تقاربها، وغيرها من المخلوقات مثل الحشرات، فنجد النمل مملكة منظمة ولها ادارة دقيقة، وتجمع قوتها في اجحارها، وتقوم جماعتها بكسر الحب حتى لا ينبت اذا جاء المطر. والنحل كذلك مملكة دقيقة.
كما نجد ان الطيور جماعة تسير خلف قائد وتتبعه حيث دار. وبأشكالها المختلفة تكون جماعات يحكي حالها السنة الكونية والحكمة الربانية، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم). 38 الانعام ، أي جماعات امثالكم.
فكيف لهذا الانسان المدعي للعلم والمعرفة ان يدعو الى الاعتزال والفرقة؟ ويظن انه من المصلحين، في حين انه من المفسدين، في الدنيا والدين.
وندعو تارك الجماعة الى سياحة قصيرة في مؤلفات الائمة المصلحين ومنهم اعلم الامة بعد الصحابة بالدين، شيخ الاسلام ابو العباس احمد بن عبدالحليم بن تيمية رحمه الله وطيب الله ثراه.
من اقوال ابن تيمية في الجماعة
فمن اقواله ما جاء في مجموع الفتاوى ج 28 ص 62: ( وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الاخرة الا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال الانسان مدني بالطبع. فاذا اجتمعوا فلا بد لهم من امور يفعلونها، يجتلبون بها المصلحة، وامور يجتنبونها، لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للامر بتلك المقاصد ، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه. انتهى كلامه.
وقال في ص 390: فان بني ادم لا تتم مصلحتهم الا بالاجتماع، لحاجة بعضهم الى بعض. انتهى. فتراه بعد بيانه لحاجتهم للاجتماع اشار الى للآمر فيهم ويعني ضرورة الامارة عليهم والرآسة فيهم وسياتي لها فقرة خاصة.
وقال ايضا شيخ الاسلام ص 168: وبنو آدم لا يعيشون الا باجتماع بعضهم مع بعض، واذا اجتمع اثنان فصاعد، فلابد ان يكون بينهما ائتمار بامر وتناه عن امر.
كما يتضح من كلام الشيخ الآتي المطول، ان الجماعة امر للوجوب وليس للاستحباب حيث قال: ص 285: هذا مع ان الله امر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بالجماعة فان يد الله مع الجماعة، وقال: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين ابعد. انتهى كلام شيخ الاسلام.
وقال ايضا ص51: وتعلمون ان من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين، تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فان الله تعالى يقول: ( فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم ). ويقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا ). ويقول: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ). وامثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، واهل هذا الاصل هم اهل الجماعة، كما ان الخارجين عنه هم اهل الفرقة) .انتهى.
فانظر الى قول الشيخ ( تامر بالجماعة ) وقوله ( اهل الجماعة ) تتبين ان منهج السلف الذي عرفوه هو وجوب الجماعة ومامور بها. وايضا قوله: (هم اهل الجماعة)، وقوله: ( الخارجين عنه هم اهل الفرقة). يشير الى من تركوا الجماعة او لم يدخلوها هم اهل الفرقة. اي ليس على سبيل الفرقة الناجية.
كما ان القاعدة العظيمة التي ذكرها هي اصول قيام الجماعة من، اجتماع الكلمة وتأليف القلوب، واصلاح ذات البين.
وقال شيخ الاسلام في 19/117 بعد ذكر الآيات: قال: فهذه النصوص وما كان في معناها، توجب علينا الاجتماع في الدين، كاجتماع الانبياء قبلنا في الدين.
ولاحظ الاشارة الى الوجوب في قوله: توجب علينا.
وقال ايضا 3/ 419 -420 بعد ذكر الآيات التي تآمر بالجماعة: فكيف يجوز لامة محمد صلى الله عليه وسلم ان تتفرق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كانوا هكذا. فهذا فعل اهل البدع، كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء من خالفوهم .واما اهل السنة والجماعة، فهم معتصمون بحبل الله .. الى قوله: وان يكون المسلون يدا واحدة. انتهى.
وقوله يدا واحدة يشير لاجتماع الاشخاص والمرافقة والمعاونة ووحدة الصف، وليس فقط لمجرد اتباعهم لما عليه الجماعة. يدا واحدة يريد الجماعة ولو كان القصد ما عليه الجماعة من منهج فقط لكان يمكن ان يكون دون جمعهم يدا واحدة لكنه يريد جماعتهم وقوتهم لمواصلة نصرة الدين سويا وبقوة الجماعة.
والوصف بقوله يدا واحدة يفيد جليا انه لا يتكلم عن منهجهم وشعائرهم وانما يعني وحدتهم وقوتهم في كونهم يدا واحدة قد اجتمعوا سواء للدعوة او للتعمير او الدفاع او الجهاد، فهم جماعة متّحدون.
وقال ص 421: فمتى ترك الناس بعض ما امرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، واذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وان اجتمعوا صلحوا وملكوا، فان الجماعة رحمة، والفرقة عذاب. الى ان قال بعد ذكر الاية ( ولتكن منكم امة ): فمن الامر بالمعروف، الامر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الفرقة والاختلاف. انتهى .
فهذا مع الترغيب في الاجتماع والوحدة، ويبيّن ترغيب شيخ الاسلام في الدعوة الى الاجتماع بل هي من الامر بالمعروف الذي تشمله الاية المذكورة، عليك رحمات الله تترى يا شيخ الاسلام، وما اعلمك بالدين وما اجهل من خالفوك.
وقال رحمه الله في منهاج السنة ( 3/ 467 ): ( فان الله امر بالجماعة والائتلاف، وذمّ التفرق والاختلاف، ثم ذكر الاية: (واعتصموا بحبل الله ). انتهى .
قول عمر لا اسلام الا بجماعة
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنن الدارمي، قال: انه لا اسلام الا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا امارة الا بطاعة. وذلك ما يفيد وجوب الجماعة، وانها من تمام الاسلام وموالاة اهله ولا كمال له الا بها.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: ( ولا تفرقوا ): امرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة). وقال في قوله تعالى: ( يدعون الى الخير ): المقصود من هذه الاية: ان تكون فرقة من هذه الامة متصدية لهذا الشأن. انتهى.
وقال في الاية: ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه (يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه اهل السنة والجماعة، وتسود وجوه اهل البدعة والفرقة، قال ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى.
وجاء في اعلام الموقعين ج 1 ص 258: قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه اهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه اهل الفرقة والاختلاف.
وقد بين شيخ الاسلام حال الجماعة بين طلبة العلم وشيوخهم، فقال في 28 / 18: واذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى، لم يكن احد مع احد في كل شيء، بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله، بل يتعاونون على الصدق والعدل والاحسان والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله، الى قوله : بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة. انتهى.
فكل ما ذكره الشيخ لا يكون الا باناس مجتمعين ومنظّمين لادارة شئونهم واموالهم ونصرة ضعفائهم، وكل منهم في المكان المناسب له.
جماعة ابن تيمية
ومن ما يؤكد انها جماعة تميز مجتمعها عن عوام المسلمين والفساق والمجرمين، ما جاء في وصايا الشيخ في المرجع السابق حيث قال: وعليهم ان يامروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ولا يدعون بينهم من يظهر فحشا، ولا يدعون صبيا امردا يتبرج، او يظهر ما يفتن به الناس، ولا يعاشر من يتهم بعشرته، ولا يكرم لغرض فاسد. انتهى.
فتتميز جماعتهم عن العامة، حتى ترفض وجود الفساق بينهم والمشهور عنهم الفواحش من المسلمين، ليكون مجتمع من اهل العلم والاستقامة في جماعة مميّزة. ومع ترغيب شيخ الاسلام في الجماعة نجد في كتاباته انه كانت له جماعة متميزة عن اهل البدع، يراسلها ويدعوا لها ويشتاق اليها، مع انه كان في عصره سلطان للمسلمين يغزو معه وينصحه، ولم يخرج عليه. ولكن يتميز في مجتمعه الخاص على نهج الفرق الناجية التي وصفها بانها جماعة اهل السنة وطريق السلف الصالح من غير خروج على الحاكم وانما جماعة اهل العلم والدعوة والاستقامة، فعندما وشى به المنافسون من علماء السوء وسجن بسبب هذا التميّز والاجتماع ظنا منهم انه يريد منافسة السلطان، فكان رحمه الله يراسل الجماعة من داخل سجنه الذي اعتبره فرصة لتدوين علمه، والشاهد قوله ج 28 ص 30 :والذي اعرف به الجماعة احسن الله اليهم في الدنيا والاخرة ...الخ .
ويقول ص 44: والمقصود أخبار الجماعة بان نعم الله علينا فوق ماكنا بكثير كثير ونحن بحمد الله في زيادة من نعم الله .وان لم تكن خدمة الجماعة باللقاء، فانا داع لهم بالليل والنهار قياما ببعض الواجب في حقهم، وتقربا الى الله تعالى في معاملته فيهم. انتهى.
ان اهل الحق واتباع السلف الصالح، اصحاب الطائفة المنصورة المبشرة بانها الفرقة الناجية، فانهم ليسوا كالاحزاب المبتدعة كما يرى البعض، فقط ان هناك ثمة تشابه في اللفظ من حيث انهم جماعة لكنها تختلف في المعنى والمضمون، وانها على الحق الذي هدى الله له اهل الايمان والانقياد، وضل عنه اهل الاهواء الا من رجع منهم، اما اهل التوحيد المتبعون، فمؤسس جماعتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتسب اليها المتبعون له، بينما تلك الفرق المبتدعة اسسها مبتدعة وازوا بها الجماعة الحقة وعليها اتباعهم العوام والجهلة.
كذلك نهى الله عن السبل: ) ولا تتبعوا السبل )، لكنه امر بسبيل واحد، نسبه لنفسه وقال تعالى: (عن سبيله)، فالنهي عن السبل كي لا يخرجون عن السبيل الذي امر به، كما اعاب على الاحزاب التي فرحت بباطلها، لكنه اقر حزبا واحدا ونسبه لنفسه ووصف اهله بالفلاح في قوله تعالى) : أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).22 المجادلة. فيقول هذا الحزب مفلح، ويقول البعض كلها احزاب باطلة ولم يستثنوا منها حزب الله، وهذا رد على الله ورسوله من حيث لا يشعرون.
وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الفرق وقال: كلها في النار، لكنه استثنى منها فرقة وقال: الا واحدة، وهي الجماعة. فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا .لا يسثنون جماعة الحق فينهون عن جماعة امر النبي صلى الله عليه وسلم بها.
مما ورد يتبين ان هناك حزبا وصف بالنصوص: انه فرقة، وطائفة، وجماعة، وعلى المسلم الايمان بها والبحث عنها بالمواصفات التي وصفت بها وصفات أهلها، والانتساب لها.
اما من هلك عند الامور المتشابهة، ورفض الجماعة خوفا من الفرقة المنحرفة فكان كالذي فرّ من التشبيه في الصفات، فوقع في التعطيل، أي جحد ما أثبتته النصوص، لهذا كان منهج اهل السنة والجماعة هو التوسط في كل الامور، يثبت ما اثبت الشارع وينفي ما نفى الشارع، فكانت هذه الامة مميزة بهذا الاعتدال في قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم امة وسطا ).
ان العارف بمقاصد الشريعة لا يرى الفرقة وترك الجماعة هو الصواب، ولا يكون الخير في هجر جماعة الموحدين من اهل السنة والاستقامة، مع ان الله تعالى امر حتى رسوله صلى الله عليه وسلم بمعية الموحدين والصبر معهم في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ). 28 الكهف.
حتى انه صلى الله عليه وسلم كان اذا راى جماعة من اصحابه مجتمعين قال: مرحبا بمن امري ربي ان اصبر نفسي معهم.
كما يوصي شيخ الاسلام بالجماعة فيقول ص 423 : فالله، الله عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، يجمع الله قلوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويحصل لكم خير الدنيا والآخرة. انتهى. .
فهذه وصية اعرف اهل العلم بالسلفية، وجامع اصولها يوصي بالجماعة، وعلى من خالف اهل الاستنباط ان يقف مع نفسه كي لا تزل قدم بعد ثبوتها.
قول الشاطبي في الجماعة
ومن علماء السلف المشاهير في القرن السادس الهجري الامام الشاطبي رحمه الله فقد قال مرغبا في الجماعة، في كتابه الاعتصام قال :الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس، وانما تكون الغفلة في الفرقة.
علما بان في عصر الشاطبي امام للمسلمين ومع هذا يرى الدعوة للجماعة المتميزة، غير العامة، بل بين انه يخالف العامة حتى رموه بمخالفة الجماعة التي عليها العوام، وسياتي كلامه بطوله في ذلك.
ان المسلم سليم القلب، لا يغل قلبه على لزوم الجماعة، كما في الحديث الذي رواه اهل السنن عنه :ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم: اخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الامور، ولزوم جماعة المسلمين.