الحاكمية والفهم الخاطئ وما بني عليه من التكفير
الرسالة الى ضحايا فكر التطرف والتكفير الذين انتسبوا اليه واتبعوه قبل العامة الذين شوشوا عليهم وهم في حيرة بين النصوص التي يوردها دعاة التكفير وبين واقعهم الذي يفيد ان هناك خطا لم يقف العامة على حقيقته وادلة بطلان فهمهم واستدلالهم. حيث يذكرون عبارة (الحكم لله) ونعم ان الحكم لله وحده، ولكن هل على فهمهم المراد من الاية؟ وما شابهها من النصوص؟. ذلك ما قالوه للامام علي رضي الله عنه حينما اعترضوا على تحكيم الرجلين. فقالوا له: ان الحكم الا لله. فاقر الامام علي العبارة والاية، ولكن انكر وجه الاستدلال بها لان هناك فهما ومراد لا ينزل على الواقع، فقال
كلمة حق اريد بها باطل). وهذه الطريقة التي يستدلون بها قد اشار اليها ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ذكر ذلك الامام الشاطبي في كتاب الاعتصام: (وستجدون اقواما يزعمون انهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم، واياكم والبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق).
كما جاء في الحديث النبوي من رواية ابي داود : يقرؤون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم.
وفي هذا البحث اورد مختطفات من كتابنا ( البؤور الارهابية في مجمعاتنا العربية والاسلامية). الفصل الثاني.
ورحمة بهم نقول تمهلوا ان كان موقفكم وفهمكم يراد به الدين ووجه الله. وتريثوا فان تكفير الاخرين اذا لم يكن حق وقع الكفر عليكم، ويجب مراجعة الشبهات والادلة، وروي عن عبد الله بن الاشح ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سيأتي اناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن فان اصحاب السنن اعلم بكتاب الله. رواه ابي داود والدارمي في السنن. وروي عنه بلفظ: جاهدوا اهل الاهواء بالسنن فان القرآن حمّال ذا وجوه.
وتابع كيف بين النبي صلى الله عليه وسلم وقوع بعض اهل القرءان في الشرك وهو ينهى عن الشرك ولاجله قاتل الاخرين، كما في الحديث الذي رواه الحافظ وابو يعلي عن حزيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انما اتخوف عليكم رجل قرءا القرءان حتى رؤية بهجته عليه وكان رداءه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك، قلت يا نبي الله ايهما اولى بالشرك المرمي ام الرامي، قال: بل الرامي.
وفي حديث حذيفة من رواية ابي داود الذي جاء فيه: دعاة على ابواب جهنم من اجابهم قذفوه فيها، فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال: نعم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فقلت يا رسول الله فما ترى وفي رواية فما تأمرني ان ادركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم... الى اخر الحديث.
وحتى تتضح المسالة فلنصبر على معرفة العبارات التي يبنى عليها هذه الاحكام. فمن الاخطاء في فهم الحاكمية ومن تعجلهم في الحكم على الناس والافعال فذلك يجعلهم لا يدركون حتى المعاني اللغوية للفعل ليحاكموه بما يناسبه.
اذ ان من تعجلهم وضحالة علمهم يرون ان كلمة الحكم اين ما جاءت تعني الحدود والسلطة التي شغلت قلوبهم، في حين ان جانب الحدود هو أقل الجوانب في كلمة الحكم، حيث ان الحاكمية أو لفظة الحكم عامة في كل امور الدين تبين صفة فعل ما، بل القرءان بكامله هو احكام انزلت في مسائل متعددة تصف تلك الافعال، كما قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) 37 الرعد، وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) 10 الشورى.
فكل أمر سواء في العقائد أو العبادات أو الحقوق، لله فيها حكم، لأن حياة المسلم كلها لله عز وجل كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). 162 – 163 الانعام.
والحكم كما بينه ابن كثير في الايه 44 من سورة المائدة وبينه ايضا شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: الحكم لغة: صفة الفعل، أي الوصف الذي يعبر به عن حركة أو تصرف ما صادر، فمن كان فعله انه يطحن بأضراسه الخبز ويبتلعه، فما صفة هذا الفعل؟، فالحكم على فعله: ياكل، وذلك صفة الفعل.
وكذلك كل فعل فان ذكر صفته هو حكم عليه من الناحية اللغوية.
والحكم شرعا: ايضا كما ذكر ابن كثير وشيخ الإسلام رحمها الله: هو ما اخبر به الشارع وما اثبته بناء على انه صفة الفعل، أي ان ذلك الوصف الذي ذكرناه، هو صادر من مصدر التشريع، أي حكم الشارع، سواء الكتاب أو السنة.
فالذي خبرنا به الشارع على فعل ما سواء من احكام الدنيا أو الاخرة أو على العبادات والسلوك، فهو حكم من الشارع في ذلك.
فعبارة الحكم عامة في كل امور الدين، كما يقال ما حكم من اكل ناسيا في رمضان، فالشارع يجيب بانه: لا شئ عليه فليتم صومه انما اطعمه الله وسقاه، فهذا حكم لكنه ليس اقامة حدود أو سلطة رئيس، ويقال احكام المياه، احكام الحيض، والحكم في عقائد الناس وهو الاساس في الدين، اذ يحكم على هذا الفعل بانه شرك وهذا مباح وهذا كفر، كما قال تعالى في سورة الزمر اية 3: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)، فهذا حكم من الله لكنه لا يعني به اقامة حد، وانما وصف من الشارع يبين خبره وحكمه بما يستحق ذلك الفعل، فهو حكم الله بينهم في المسالة المختلف فيها بينهم باتخاذ الوسطاء لله، فحكم على ذلك الفعل بالكفر.
وكذلك قول يوسف عليه السلام لاصحابه في السجن ردا على ما كانوا يعتقدون مع قومهم وبيّن حكم الله في ذلك، لأنه وحده الذي يحكم في هذه الامور العقائدية، قال تعالى حاكيا عنه: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) 40 يوسف. أي من يحكم على ما تفعلون بانه جائز ام لا هو الله. وليست اهواءكم.
فكلمة الحكم هنا لا تعني امور السلطة والحكام أو اقامة الحدود، وانما الفصل في هذه المسالة الخلافية في العقيدة والذين تعبدونهم من دون الله بالتقديس والدعاء، وهم كانوا يعرفون ربهم ويعبدوه لكنهم جعلوا له شركاء واعتبروا ذك جائز ولا يخالف الدين، فخبرهم بان الذي يحكم بالجواز أو المنع في هذه المسائل هو الله: (ان الحكم الا لله).
فمسالة الحاكمية هي عامة وليس خاصة بالحدود.
ولما فهمها اسلافهم الخوارج الاوائل بانها تحرم النوع الذي يرونه من حكم الوسطاء المحكّمين في الصلح، واستخدموا الاستدلال بها في غير موضعه قال لهم الامام علي رضي الله عنه بعد ان ذكروا الاية قال: كلمة حق اريد بها باطل، فايضا هؤلاء الخوارج اليوم يضعونها كثيرا في غير موضعها ان لم يكن في ذات الاستدلال فهم حوله يدندنون. فالحاكمية عامة في كل امور الدين يطلب منهم الله تعالى ان يحكّموا كتابه وسنة رسوله في ذلك ثم طاعة ولاة الامر، وقد جمع الله عز وجل كل ذلك في اية واحدة لكن المتطرفون تركوا ثلثيها وامسكوا بجانب السلطة ليتسلطوا على رقاب الناس باسم الدين، قال تعالى في الاية 60 من سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59). فانظر الامر طاعة عامة في كل شي وكل الامور، ولما كان هناك منافقون لم يعجبهم ذلك، وكانوا في داخلهم يريدون عن قصد تركه والتحاكم إلى غيره، قال الله عنهم في الاية التي بعدها: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وإذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إذا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أنفسهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63).
ثم يستدرك عليهم تعالى ويؤكد ان الرسول اصلا ارسل لهذه الطاعة العامة في كل شئ قال تعالى بعدها: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أنفسهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64). وليؤكد ذلك اقسم تعالى بان الايمان لا يتم الا إذا حكّموا رسوله في كل ما اختلفوا فيه وليس في الحدود فقط، بل ويكون ذلك عن رضا في داخلهم ومن غير حرج أو ملل، بل ويستسلموا استسلاما حقيقيا لله تعالى بان يقودهم امره إلى أي شئ اراده منهم، فقال تعالى عن ذلك بعد تلك الايات: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أنفسهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65). وليؤكد ان المسالة فيما يخص المؤمن في داخله واستجابته لربه قال تعالى بعدها: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أنفسكُمْ أو اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وإذا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)). ثم يرجع ويؤكد ان الامر كله المطلوب هو طاعة الله والرسول الذي ارسله لتلك الطاعة وحتى لا يستهان بمسالة الطاعة عامة، اخبر ان من يطع الله والرسول أي في التعاليم التي تصدر لكل مسلم، فهو في اعلى درجات الاخرة قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا (70). النساء.
فبين ان أمر ألحاكمية أمرا عاما في كل طاعة وهو العليم بهذه المسالة وليس تأويل أصحاب المناهج المنحرفة. اما المنحرفون فجعلوا الحاكمية هي فقط سلطة الحاكم لأن أعينهم تنظر إلى كرس الحكم، فساروا وأعينهم فيه حتى تقع أقدامهم على المهالك وهم لا يشعرون.
ومن اخطاءهم الشائعة في العقيدة: واكثر ما يتوافق عليه المتطرفون: اعتقادهم كفر الحاكم في بلاد المسلمين الذي لم يطبق الحدود دون ان يجحدها، بالكفر الاكبر المخرج من الملة لمجرد تركه الحدود دون جحود، لكنه يدين بعقيدة المسلمين، فالصواب هو من اهل القبلة وتجري عليه احكام الإسلام في تقصيره، اما ان يكون من عامة العصاة ظالم لنفسه أو فسق دون فسق، أو معذور حسب ما سيرد من احكام التعطيل للشرع.
واما عن تفصيل حكم ترك الحدود أو تعطيلها، فهو عدة احكام واحوال مختلفة، فليس بالكفر في كل حال، وحتى إذا قيل الكفر ليس كله الاكبر المخرج من الملة، الا حالة قلّما تثبت على حاكم مسلم.
فالحالة الاولى في التعطيل:
مؤمن بالحدود لكنه لمعصيته أو ظلما أو تساهلا معطل للحدود فهو، ثلاثة احكام
1- فسق دون فسق: أي ليس أكبر يخرج من الملة. والثاني: 2- ظلم دون ظلم: أي ليس مخرج من الملة كالشرك الاكبر. 3- كفر دون كفر، أي أصغر لا يخرج من الملة.
هذه الثلاثة للحالة الاولى، معطل للحدود دون جحود.
والحالة الثانية في التعطيل: كفر أكبر مخرج من الملة، وهو الجاحد لها أي رافض لها وغير مؤمن بها.
والحالة الثالثة في التعطيل:
معذور لعدم الاستطاعة أو الجهل.
ونقف على الادلة واقوال الصحابة رضي الله عنهم واهل العلم المعتبرين في هذه الاحوال التي غابت على المتعجلين الجاهلين بالعقيدة.
فالحالة الاولى في التعطيل: المعطل للحدود وهي ثلاثة احكام، الفاسقون، أو الظالمون، أو الكفرون، كله أصغر أي لا يخرج من الملة.
وذلك ما ورد في الايات 44 وما بعدها من سورة المائدة، والشاهد منها قوله تعالى في نهاية الثلاث آيات: (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هو الكافرون) (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الفاسقون).
فالاول الكافرون، ولكن يجب ان يعرف أي نوع من الكفر؟ ويجب هنا ان نحدده من جهة المشرّع وممن سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وليس منا ولا من المتشنجين والمدّعين.
ومنها ما جاء في صحيح البخاري، حدتنا محمد بن بشار قال حثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن ابي جريج عن عطاء قوله (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الفاسقون) قال: كفر دون كفر وفسق دون فسق وظلم دون ظلم.
وآخر للبخاري حدثنا هناد قال حثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا ابي عن سفيان عن سعيد المكي عن طاوس (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الكافرون) قال ليس بكفر ينقل عن الملة.
وآخر حدثنا الحسـن بن يحيى قال اخبرنا عبد الرزاق قال اخبرنا الثوري عن رجل عن طاوس (فألئك هم الكافرون) قال: كفر لا ينقل عن الملة، قال: وقال عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
واخر عن ابن طاوس عن ابيه قال: قال رجل لابن عباس في هذه الايات (ومن لم يحكم بما انزل الله) فمتى فعل هذا فقد كفر؟، قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وهنا القول واضح بانه ليس الكفر الاكبر كمن لم يسلم اصلا أو ترك الإسلام بالجحود. وقد يلتبس الامر على البعض في تشابه القول في التكفير، اذ ان الحالة المعنية بالكفر هي إذا كانت من جنس ترك الكفار وليس ترك المسلم المقر بالحكم.
وذكر في ذلك ابن حجر بعض الاثار مع شرحه للبخاري.
قال ابن هبيرة: ان الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، خبر عنهم انهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون.
أي إذا كان تركهم من جنس ذلك الترك، أي ترك الجحود، فهذا الذي يحمل على الكفر الاكبر لأنه انكار كحال الكفار.
وهذا التكفير من النوع المعلل بعلتين، تارك للحكم، وجاحد له، بمعنى مريد ومحب لهذا الترك وراغب فيه كقوله تعالى: (يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت)، وهذا المعنى واضح من سياق الايات التي يستدلون بها دائما وهي حجة عليهم، قال تعالى في سورة النساء: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) 60 -61.
فهؤلاء تركوا حكم الله وهو قائم ويبحثون عن غيره، رغبة وارادة، فالحالة مختلفة، لا ينطبق الحكم حتى ينطبق الحال بالترك والإرادة معا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج20 ص 167: في تعليل الحكم الواحد بعلتين وما يشبه ذلك من وجود مقدر واحد بقادرين، ووجود الفعل الواحد من فاعلين.. الخ). إلى ص 174 قال: وقد تبين بذلك ان علتين لا يكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع. وهذا معلوم بالضرورة البديهية بعد التصور فان الاستقلال ينافي الاشتراك اذ المستقل لا شريك له والمجتمعان على أمر واحد لا يكون احدهما مستقلا به..الخ. انتهى كلامه.
كما ذكر شيخ الإسلام في بيان ان التكفير فقط للمستحل قال في ج 19 ص86: على أحد القولين (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الكافرون) أي هو المستحل للحكم بغير ما انزل الله.
والمستحل هو جاحد لحكم التحريم وغير مقتنع به فهو يكفر لهذا الاعتقاد بالحجود وليس الترك مع الايمان به.
واستدل شيخ الإسلام على ذلك بما ذكر عن ابن عباس والذي جاء في ج7 ص 254: في قوله (ومن لم يحكم بما انزل الله فألئك هم الكافرون) قال: فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الايمان بعضه دون بعض فكذلك الكفر حتى يجئ من ذلك أمر لا يختلف فيه. انتهى كلام ابن عباس الذي نقله ابن تيمية.
ويؤخذ منه ايضا، بعد تعريفهم لعدم كفر غير الجاحد، ان في ذلك ايضا ردا على تكفير المتطرفين لعامة الشعب الذي يتحاكم إلى قاضي لا يرونه مسلم أو في بلاد النصارى، فعند السرقة أو تعدي شخص على مال مسلم يذهب إلى القاضي أو الشرطة ليرد حقه، فان المتطرفين يكفرونه بانه تحاكم إلى الطاغوت، وقد ذكر شيخ الإسلام ان حالة الكفر المعنية، هي التي تجمع الارادة الداخلية أي الرضى مع الفعل، للذي مريد للترك أو التحاكم لغير الله مع وجود من يحكم بشرع الله.
لكن من اضطر للاستعانة بقوة غير المسلمين دون الايمان بمشروعية دينه فهذا يختلف، لأنه عاجز عن التحاكم للشرع اما لعدم وجوده، أو عجزه هو عن تحكيمه إذا كان حاكم، ولم يكن تارك له برغبته أو يحجده، بل يحبه ولم يجده أو عاجز عن فعله، وهذا يشترك فيه الحاكم العاجز والمتحاكم العاجز، ولذا سياتي ذكره عند حكم الحاكم العاجز عن اقامة الحدود أو الشرع بالكلية.
وردا على اختطافهم كلمة كفر واخذها على حالة واحدة، فيجب ان يعرف انه ليس في كل حال كلمة كفر تعني الكفر الاكبر المخرج من الملة بل ذكر في الاحاديث كثيرا ويراد به احيانا نوع من الكفر حتى دون الكفر الاصغر، ويراد به ما تحتمله معانيه اللغوية، كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: تصدّقن فاني رايتكن أكثر اهل النار: قالت لم قال: لأنهن يكفرن. (هنا ذكر ان من عادات النساء يكفرن، ولكن عائشة رضي الله عنها استوضحته فقالت): ايكفرن بالله؟ قال يكثرن اللعن ويكفرن العشير. (فبيّن ان كلمة الكفر التي ذكرها هنا يعني بها الكفر بعشرة الزوج، وليس الكفر بالله، وهو ان المرأة تجحد ما قدم لها زوجها من احسان، في لحظة غضب فتقول: لم ارى منك خيرا قط أو لم تفعل لي كذا، فهذا كفر لكنه بعشرة الزوج وليس كفر بالله).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
فهل نقول من سب مسلم كفر كالذي يخرجه من الإسلام؟ فان ذلك يخالف ما صحت به النصوص واتفق عليه اهل العلم، فان قتل النفس من الكبائر وكفر أصغر لا يخرج من الإسلام، ومنه انه بعد قتل القاتل حدا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويرثه اهله، وإذا كان كفرا أكبر لن يورث لأنه لا يتوارث اهل الملتين، فدل ذلك على انه كفر لا يخرجه من الملة وتجري عليه احكام المسلمين.
فكذلك كثيرا من العبارات ظاهرها البراءة من فاعلها لكنه ليس بالكامل، مثل الحديث: ليس منا من لم يحترم صغيرنا ويوقر كبيرنا.
فهذا ليس براء من إسلامه، وانما ليس مثلنا أو على سنتنا وطريقتنا، أي طريق الصفوة والنخبة الاولى، ومثله قوله: صلى الله عليه وسلم: ليس منا من بات شبعان وجاره جائع، فهذا توبيخ له وانه ليس من قمة المؤمنين، لكنه لا يعني انه كافر وليس من المسلمين.
وكل ذلك نصل منه إلى انه إذا ذكرت كلمة كفر أو مثلها يجب ان ننظر في موقعها وما يؤيد ذلك المعنى من اصول الدين واصول الفقه، أي نوع من الكفر أو الفسق أو أي معنى له من اللغة فيما إذا كان حقيقة أو مجاز أو حكم فيه درجات. وحتى في الفاظ المدح يجب النظر فيما يحتمل اللفظ، فمثلا في الحديث: من توضا صحة صلاته.
فهل يكفي لصحة الصلاة الوضوء فقط، ام بما يتضمن احكام الصلاة وشروطها، فكذلك كل الاحكام يجب التريث فيها ومقابلتها مع ما جاءت به السنن.
وتباع التكملة ادناه